شغب - كرة القدم.. ظاهرة اجتماعية دموية - ماجد عزيزة ? تنتشر بين البشر من ساكني الكرة الارضية ظواهر اجتماعية عديدة، تختلف باختلاف البيئة او طبيعة الانسان او الظروف الاجتماعية والاقتصادية وغيرها، لكن المليارات الست الذين تعجّ بهم اليابسة، بل وحتي القلة التي تعيش فوق المياه بشكل او بآخر اتفقوا من دون ان يجمعهم مؤتمر او ندوة او برلمان ومن دون ان يوقعوا علي ميثاق او معاهدة او اعلان علي ان لعبة كرة القدم هي الظاهرة الاجتماعية الأولي في العالم شاء او أبي جميع احفاد آدم وحفيدات حواء! لكن هذه الظاهرة الاجتماعية اصبحت الاكثر دموية بين بقية الظواهر المنتشرة في مسكونتنا.. كيف؟ ولماذا؟ وما السبب؟ تساؤلات نجيب عنها في السطور التالية...
مهنة.. دموية منذ ان اصبحت كرة القدم هي اللعبة الشعبية الاولي في العالم، فانها بدأت باستقطاب المعجبين بها. والذين نطلق عليهم تسمية (المشجعين)، هذه التسمية تطورت مع تطور اللعبة فنا وعلما وخططا.. لتصبح (هوس وجنون) بل حتي (جرائم قتل).. حتي وصل الامر لتقوم النزاعات والحروب بين الدول! فأمزجة المشجعين من ذوي الدم الحار ترتفع وتنخفض وفقا للنتائج التي تحصل عليها فرقهم (وطنية كانت أم فرق اندية). احداث كثيرة شهدتها مدن وملاعب عديدة في العالم جراء جنون المشجعين، قتل وتخريب، والسبب لا يتعدي فوز فريق علي آخر، وهو الامر المنطقي الذي لا بد ان يحدث بين فئتين تتنافسان كي تتفوق احداها علي الاخري، وهوس التشجيع في لعبة كرة القدم امر سهل اذا ما اخذناه كأساس، فهو ليس مشابها لتحرك طلابي مثلا او عصيان شعبي او احتجاج نقابي للحصول علي مطاليب او مكاسب محددة الاهداف، بل هو ما يشبه الحصول علي ما لا يحق لك الحصول عليه.. يقول البروفيسور امبرتو ايكو الكاتب الايطالي في احدي مقالاته عن الرياضة: علي الرغم من ان المسألة سخيفة!، فانت ستشاهد وتقدر حالا قوة كرة القدم كظاهرة اجتماعية وذلك بان تنظر حولك في الملعب فقط، بل وفي حياتك اليومية، لكن كم مناقشة تستطيع ان تسمع في يوم واحد حول مباراة في كرة القدم؟ وكم مجادلة (بصوت عال) نستطيع مشاهدتها بين مشجعين مختلفين لفرق مختلفة؟ وكم من الملصقات والشعارات لفرق كرة القدم تستطيع ان تري؟ وكم برنامجا رياضيا تلفزيونيا تستطيع ان تراقب لتؤسس علاقة طبيعية مع كرة القدم؟ وكم مباراة تستطيع ان تشاهد في قنوات التلفزيون المتوفرة لديك كل ليلة؟ وكم صفحة في جريدة او مجلة تستطيع ان نقرأ فيها ما يخص كرة القدم كل يوم؟ وكم من هذه وتلك ستسعدك وكم منها ستزعجك؟ . هذه التساؤلات التي طرحها البروفيسور ايكو اراد ان يؤشر بها قوة وتأثير لعبة كرة القدم علي الناس الذين يتخذون من ملاعب كرة القدم مكانا لمهنتهم... (والمهنة هنا هي التشجيع).. وهؤلاء الذين يعشقون اللعبة قد يعبرون عن اعجابهم سرا او بهدوء، لكن المشكلة في الذين يعبرون عن اعجابهم علنا.. بالصياح او الصراخ تارة، بالقفز او الرقص تارة اخري، او بممارسات غيرها قد تصل الي حد الضرب والتدمير واحراق السيارات وتحطيم زجاج المحلات... والقتل احيانا، وهذا ما يهمنا في هذا الموضوع.
لا... للخسارة مهنة المشجعين تظهر جلية في حالة خسارة فريقهم، فحالة الفوز طبيعية لدي اغلب المشجعين حيث لا يعقبها الا الفرح والانشراح الذي قد يصل الي درجة الرقص والزعيق في الشوارع وما الي ذلك من الحالات التي يعبر فيها الانسان عن سعادته، لكن الحالة التي نعنيها هي تلك التي تعقب الخسارة، واسبابها من وجهة نظر المشجعين وامزجتهم، فالمهنة تبدأ هنا حيث الهياج والتدمير بعد فقدان السيطرة علي الاعصاب وصولا الي القتل! فالخسارة (اي خسارة الفريق) لا وجود لها في قاموس المشجعين الذين لا يمكنهم ان يستسيغوها، فعلي الفريق ان يفوز دائما.. هنا نقول ان لعبة كرة القدم مؤشرة بشكل غير طبيعي علي اشخاص غير طبيعيين وعلي حساسيتهم وشعورهم. فهم لا يفهمون ولا يعرفون الا جملة (الفوز فقط)!.
حتي الملوك والرؤساء وبكل تأكيد فان كرة القدم تختلف كثيرا عن الالعاب الرياضية الاخري التي نستعمل فيها الكرة، والتي تثير استفزازا كبيرا في منافساتها مثل كرة السلة والكرة الطائرة وكرة اليد والتي تتابعها وسائل الاعلام بكثافة، كيف ذلك؟ سؤال يتبادر الي الذهن.. الالعاب المذكورة تحتاج الي مهارات فنية خاصة وفيها الكثير من العلوم التكنيكية، لهذا فان الناس العاديين (وليس الاختصاصيين) وحتي المشجعين لا يعون جيدا كيف يجب ان نلعب او قد لا يفهمون كثيرا في تلك المهارات والعلوم بسهولة، وهم ايضا لا يمتلكون (تأهل الاختصاص) خبرات فنية وافية فيها فهي العاب معقدة تدريبا وتنفيذا وتحكيما.. علي عكس كرة القدم التي بات مشجعوها يعرفون جميع خفاياها وخباياها بدءا من طرق التدريب وخطط اللعب الي مهارات اللاعبين وتفصيلات حياتهم وصولا الي معرفة تفصيلية بقانون اللعبة، اي ان اصغر مشجع في العالم يفهم كيف تلعب كرة القدم، بعد ان اصبحت كالماء والهواء بالنسبة للناس، حتي الذين لا دخل لهم فيها، حيث بدأ رجال الاعمال ومالكو الاموال يستثمرون اموالهم في عالم كرة القدم.. ففي الملعب تجد الجميع يصرخ ويزعق، ينهض ويؤشر، يصفق ويضرب كفا بكف، حتي الملوك والرؤساء الذين يحضرون مباريات فرقهم. فكيف بالناس الذين (يمتهنون التشجيع)!؟.
حكام.. بلا صافرة في الملاعب وعلي المدرجات تجد ان جميع المشجعين قد انقلبوا الي (مدربين او حكام) يفهمون في خطط اللعب، ومواقع اللاعبين، يعترضون علي المدرب اذا ما اشرك لاعبا في موقع لا يدخل في مزاجهم، وجميعم حكام (لكن بلا شارة ولا صافرة) يقيمون الحالات التي تحدث داخل ساحة اللعب وهم فوق المدرجات، فعلي الرغم من بعد المسافة بينهم وبين اية حالة قد تقع داخل الساحة فانهم يطلقون احكامهم عليها جزافا بحيث تكون في الغالب لصالح فرقهم حتي وان كانت تلك الاحكام خاطئة، يشتمون الحكام ويسمعونهم كلمات لا يتحملها بشر، وقد يصل الامر الي قذفهم بالقناني والزجاجات.. مثل هؤلاء المشجعين لهم اغانيهم وشعاراتهم الخاصة، حتي شتائمهم... اضافة الي ادوات اخري من طبول ومزامير وادوات تشجيعية متنوعة قد تكون (جارحة او حتي قاتلة) مع بعض الطقوس التي ظهرت بعد بطولة كأس العالم 1966 في انكلترا تصبغ الوجه بالوان مماثلة لالوان فانيلات الفرق.
شغب.. شغب! خلاصة القول ان كرة القدم كظاهرة اجتماعية اوجدت فئة في المجتمع هي اقرب الي المجانين منها الي البشر الاسوياء، قد يقومون ــ بل هم قاموا ويقومون فعلا ــ باعمال جنونية غير مسؤولة خارجة عن قدرة الانسان لضبط قواه العصبية، وهي الظاهرة التي اطلق عليها (فرانك تايلور) رئيس الاتحاد الدولي للصحافة الرياضية تسمية (الشغب)، ففي دورة صحفية رياضية اقيمت في الكويت عام 1985 (شارك الكاتب فيها).. أكد السيد تايلور الذي كان يعمل آنذاك محررا رياضيا في جريدة (الديلي ميرور) الانكليزية: ان كرة القدم اوجدت خلال النصف الثاني من القرن العشرين فئة من البشر تنقلب الي شيء اقرب الي الحيوانات في تصرفاتهم بعد خروجهم من ملعب كرة القدم وفريقهم قد مني بخسارة لا فرق عندهم في ان يكون فريقهم مستحقاً للخسارة ام غير مستحق! . وقد تكون خسارة الفريق سببا رئيسا للقيام باعمال الشغب لكن.. كما يقول السيد تايلور: هناك اسباب اخري تدفع الجمهور المشجع الي الهياج وافتعال الازمات والمشاكل، منها حركات اللاعبين المصطنعة داخل ساحة اللعب بقصد اثارة الجمهور ضد لاعب خصم او ضد حكم المباراة، كذلك تلك العناوين العريضة (المانشيتات) التي تضعها بعض الصحف في صدر صفحاتها الرياضية، او الكلمات المثيرة التي يستعملها معلقو مباريات كرة القدم في التلفزيون مما يثير جمهور المشجعين. لهذا وجب علي الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) والمنظمات او المؤسسات الاخري المعنية بهذا الامر.. ان تحد من ذلك . في مختلف دول العالم وخاصة تلك الدول التي اصبحت لعبة كرة القدم شيئا مهما في حياة مواطنيها، ينقسم المشجعون الي مجموعات داخل روابط يجمعها شيء واحد هو متابعة الفريق حتي اثناء تدريباته اليومية، ومرافقته اينما ذهب، مما يعطي حافزا ودفعا معنويا للاعبين لاحراز الفوز، ففي اغلب دول اوروبا وامريكا اللاتينية (كانكلترا والمانيا وفرنسا والبرازيل والارجنتين وغيرها) والتي اصبح فيها دوري كرة القدم من مكملات الحياة اليومية لاغلب الناس، وبعد ان شاعت اسماء الاندية وذاعت اسماء اللاعبين النجوم... ارتفعت وثائر التعصب لدي المشجعين وبات هؤلاء لا يتورعون علي فعل اي شيء للتغلب والانتصار علي مشجعي الفريق الخصم، لهذا شاع الشغب وكثر التعصب وزادت المشاكل قبل اقامة المباريات وخلالها وبعدها، وشهدت ملاعب عديدة في انحاء اوروبا والعالم مآسي ما بعدها مآسي!. فمن المعروف ان الجمهور الانكليزي هو اكثر جمهور مشاغب في العالم وسبب ذلك يعود الي قدم وعراقة بطولة الدوري الانكليزي التي تجاوز عمرها الـ100 عام، حتي ان فئة اجتماعية ظهرت هناك نتيجة التعصب لفرق كرة القدم، هذه الفئة التي يطلق عليها تسمية (الهوليغانز) اصبحت واحدة من المؤشرات السلبية داخل المجتمع الانكليزي حتي لا يتورع اعضاؤها علي القيام باي شيء بدءا من افتعال المشاكل البسيطة وحتي القتل والسبب الرئيس في تصدر المشجعين الانكليز والاوروبيين علي العموم لقائمة الشغب والمشاكل في العالم هو سهولة التنقل وحريته بين الدول الاوروبية، واستمرارية اقامة بطولات كرة القدم فيها، والحرية الشخصية التي يتمتع بها الاوروبي والتي تصل الي حد (الانفلات)!.
ضحايا ولعل اشهر حادثة شغب معروفة في ملاعب العالم هي تلك المأساة التي حدثت في ملعب (هيسل) البلجيكي وراح ضحيتها مئات المشجعين الابرياء الذين انهار بهم مدرج الملعب وسحقتهم الاقدام نتيجة الافعال الجنونية الاجرامية التي قام بها المئات من (الهوليغانز) الانكليز، وآخر ضحاياهم كانا اثنين من مشجعي نادي ليدز يونايتد اللذين قضيا نحبيهما بعد مباراة النادي الانكليزي امام غلطة سراي التركي في بطولة الكأس الاوروبية التي جرت في استانبول حيث جرت اعمال عنف تحطمت اثرها العديد من واجهات المحلات والاسواق... والامثلة كثيرة!.
حرب الـ100 ساعة لكن اشهر حادثة علي الاطلاق والتي كانت كرة القدم سببا فيها هي تلك الحرب الضروب التي نشبت بين دولتين جارتين هما (هندوراس والسلفادور) عام 1970، ففي تصفيات كأس العالم للقارة الامريكية كان يتوجب علي فريقي هندوراس والسلفادور خوض مباراة فاصلة بينهما لحسم الموقف في اعلان الفريق الذي سيشارك في نهائيات كأس العالم. وكان روبرتو كوردونا لاعب هندوراس هو الذي اشعل فتيل الحرب بين الدولتين حين وضع كرته في مرمي فريق السلفادور في الدقيقة الاخيرة من المباراة، هذه الكرة كانت ايذانا بقيام طائرات السلفادور الحربية بقصف مدن ومنشآت هندوراس في حرب شعواء استمرت (100 ساعة) خلفت وراءها اكثر من 4000 قتيل و12000 جريح اضافة الي تدمير آلاف الدور السكنية بحيث فقد اكثر من 50 الف شخص بيوتهم نتيجة الحرب!. هدف روبرتو كوردونا القاتل الذي اشعل الحرب بين دولتين كان سببا في فاجعة اخري، فالكرة التي سددها هذا اللاعب بقدمه وهز بها شباك مرمي السلفادور حرك الشعور الوطني (اميليا بولونياس) الفتاة السلفادورية ذات الـ18 عاما، حين تحركت من امام شاشة التلفزيون حيث كانت تراقب المباراة نحو (مسدس) والدها واطلقت النار علي رأسها لتفضي في الحال، ومع الغارات الجوية والحرب بين بلادها وهندوراس سار الآلاف في جنازتها في شوارع العاصمة (سان سلفادور) بصمت رهيب!.
الشغب في بلاد العرب واذا كانت مظاهر التعصب والشغب في دول اوروبا وامريكا اللاتينية قد سيطرت علي جمهور ومشجعي كرة القدم هناك، فان بلادنا العربية لم تنج من هذا المرض علي الرغم من ان تلك الحدة المتصاعدة هناك (واقصد في اوروبا وامريكا) ليست بالقوة ذاتها في ملاعب كرة القدم العربية والسبب هو السيطرة المركزية الحكومية القوية، والرقابة (البوليسية) الصارمة والقمع الشعبي (ومنه الرياضي) المرتفع الدرجة في اغلب البلدان العربية، اضافة الي القيم والعادات الاجتماعية التي تحد من بعض تلك الممارسات. لهذا فانه من النادر ان تثار مشكلة كبيرة او شغب جماهيري مستفحل في شوارع وملاعب المدن العربية، وما يثار لا يتعدي الصياح والصراخ وشتم حكام الكرة ورمي القناني في ساحة الملعب.. لا اكثر. فالقمع والاعتقال والضرب (بوليسيا) مسموح في البلاد العربية وهو ما يجعل اي مشجع (مشاغب) يحسب الف حساب قبل ان يقدم علي ما يشابه افعال الهوليغانز ! مع هذا فهناك آلاف بل ملايين من المشجعين العرب يقفون وراء انديتهم المحلية الشهيرة، اكثرها شهرة علي الاطلاق (الاهلي والزمالك) في مصر، (الزوراء والجوية) في العراق، (الفيصلي والوحدات) في الاردن)، (النجمة والانصار) في لبنان، (الهلال والمريخ) في السودان، (الجيش وتشرين) في سوريا... اولئك المشجعون يحاولون ممارسة الشغب بالانفلات نفسها للاسباب التي ذكرناها سابقا، وقد ينفلتون بين حين وآخر، لكنه انفلات خائف، لانهم يعرفون تماما المعني العميق للمثل العربي الشهير (العصا لمن عصي!!).
عناوين جانبية
? لعبة كرة القدم مؤشرة بشكل غير طبيعي علي اشخاص غير طبيعيين وعلي حساسيتهم وشعورهم، فهم لا يفهمون ولا يعرفون الا جملة.. الفوز فقط .
? كرة القدم كظاهرة اجتماعية اوجدت فئة في المجتمع هي اقرب الي المجانين منها الي البشر الاسوياء.
? 4000 قتيل و12000 جريح و50 ألف مشرد في حرب الـ100 ساعة بين هندوراس والسلفادور.. والسبب كرة القدم .