بسم الله الرحمن الرحيم
الجزء الثاني.....على ثراها
بقلم: د.إبراهيم حمّامي
قبل أن أصل مدينة رفح المصرية، وتحديداً في الشيخ زويد
أجريت اتصالاً هاتفياً تحسباً لانقطاع التغطية، تحادثت مع عائلة زميلتنا
في رفح، اخبرت اخاها أني على وشك الوصول، أكد أنه سيكون بالانتظار، لكن
بسبب شدة الازدحام والحواجز وصلت بعدها بساعات.
غادرت سيارة الأجرة عند بنك الاسكندرية، وتراءت بوابة صلاح الدين
أمامي، اتكلت على المولى عز وجل، الأمطار تنهمر وموجات بشرية تتدافع
باتجاهين، من فوق السور الحديدي وبقفزات معدودة. دخلت أرض الوطن، أخيراً
على ثرى فلسطين الحبيبة.
اللحظة الأولى، الخطوة الأولى، اللقاء الأول، آه كم طال هذا اللقاء، أه كم
انتظرته، الآن يتحقق جزء منه، فرحة كبرى لا تكتمل إلا بالتحرير الكامل
والعودة إلى مدننا وبلداتنا وقرانا وأرضنا الأصلية، في يافا وحيفا وعكا
والناصرة وصفد والرملة وبيسان وطبرية واللد وإلى أصغر خربة على أرضنا
الحبيبة. اليوم.. الاربعاء 30/01/2008 الرابعة مساء، يوم لن أنساه ما
حييت، يوم عانقت أرض الوطن، يوم كان اللقاء.
امتزجت حبات المطر مع دموع الفرح، شعرت حينها كأني أحلق في الفضاء، وأنا
اقف بثبات على الأرض. كنت أنظر حولي كمن ضل الطريق بعد أن وجدها. ها هي
غزة تضمني وتجمعني بأهلها المرابطين الصابرين. تذكرت قصيدة في القدس لتميم
البرغوثي، تذكرت حلمي، شريط من الأحلام المؤجلة مرت بسرعة البرق. أحقاً
وصلت؟ نعم انها الحقيقة، شكراً لك يا رب على كرمك.
كنت مبتلاً،كانت أرجلي غائصة في حنّاء الوطن، تراب غزة الممزوج
بالمطر والمعطر بدماء الشهداء، لكن رغم ذلك كنت أشعر بالدفء، دفء من نوع
آخر، إنه دفء في حضن الوطن، دفء الأرض الذي استشعره لأول مرة، دفء الجذور
والانتماء، وقفت وسط الجموع الهادرة مشدوهاً مسبوهاً، توقف الزمن عندي.
العمر كله مر بثوان، آلاف من حولي رأيتهم بثياب ناصعة البياض رغم
اختلاف ألوان ملابسهم، خلته بداية الفتح العظيم، كصورة فتح مكة، لكن نحو
القدس بإذنه تعالى، كنت أطوف العالم وأنا في مكاني، كل شيء يتحرك وأنا
ثابت، ربما ظن البعض أني أبله، أو أني ضللت الطريق، لكني كنت أشبع ناظري
من كل ما حولي، وجدتني ابتسم، ثم ضحكت، لا أدري لماذا تذكرت عبّاس وهو
يتهم اللاجئين الفلسطينيين في الخارج بعدم الوطنية، لان ارجلهم لم تتغبر
بتراب الوطن، يعايرهم وكأن الأمر برغبتهم وارادتهم، ضحكت وقلت بصوت عال،
انظر يا عبّاس لمن جاءوا من كل حدب وصوب لا ليغبروا أقدامهم، بل ليعانقوا
الثرى الطاهر، ليغوصوا فيه، ليتبركوا به، ليتشرفوا بالانتماء اليه. ابتسمت
مرة أخرى وتساءلت، يا ترى هل مشى عبّاس يوماً على تراب الوطن؟ أم أنه
يتجول بسيارته حيث يسمح له بالحركة؟ لا أعرف الاجابة – أو ربما أعرفها،
لكني لن أفسد اللحظة بتذكره وأمثاله.
لوحة جميلة حيّة، لم أكن قد خطوت إلا بضع خطوات، كانت كافية أن تمنحني
طاقة قوة وصلابة ويقين، بأننا شعب لن ينهزم ولن يلين بإذنه تعالى، دعوت من
أعماق قلبي أن يكتبها الله لكل عاشق لوطنه ينتظر كما انتظرت، كنت أردد في
سري : ليتكم ترونها كما أراها...
من بين آلاف الأصوات حولي سمعت من ينادي ويتساءل: أبو عمر؟ التفت إلى جهة
الصوت، لم أكن أعرف صورة من ينتظرني، لكن من تقاسيم الوجه والشبه بينه
وبين أفراد عائلته عرفته، كان ضخماً طويل القامة، شكله أضاف بهجة للحدث
المشرق، هي هكذا تلك اللحظات يرى المرء فيها كل شيء له آلالاف المعاني، في
غزة أرض العزة، الصغيرة بجغرافيتها، العظيمة الكبيرة العملاقة بفعلها. لا
أعرف كيف استطاع أن يميزني وسط تلك الجموع، تعارفنا وتعانقنا، أهلاً بك في
رفح، اتجهنا حيث كانت تنتظرنا سيارة لأحد اقاربه، حياك الله أخي الحبيب
واعتذر عن طول انتظاركما، هكذا بدأت، لكن الأسارير المنفرجة والترحاب
الأصيل كان رده.
تجرأت وطلبت: هل من الممكن شراء شريحة جوال لاستخدامها هنا، "ان شاء الله"
كان الرد، لكن الفعل كان بسرعة الرد. توقفت السيارة، لحظات وكانت الشريحة
معي، آلمني أن أدفع قيمتها بما يعادل 120 شيكل، لماذا الشيكل؟ ألم يكن
الدينار والجنيه هو العملة المتداولة قبل بركات أوسلو؟ ما علينا! ما أعظم
هذا الخٌلق الطيب الذي قابلته في كل زاوية من زوايا قطاع غزة.
الطريق كان مليئاً ببرك المياه والحفر، عرفت أنه لا توجد شبكات صرف، لكن
الاعتماد على الصرف السطحي، اي بالجاذبية، ومن كان حظه في مكان منخفض عليه
أن يتحمل ويستعد للسباحة!. مرة أخرى جال بخاطري سؤال: أين هي انجازات
السلطة الموقرة والمليارات التي استلمتها؟ ليس هذا وقته يا رجل، دعنا منهم
ومن سيرتهم، ولتكن تلك الأيام جميلة بكل ما حملت من معان.
في منزل الأسرة الكريمة في مدينة رفح قابلت والدتهم والأحفاد، حديث
ذو شجون واطمئنان عن أحوالهم وأحوال أهلهم في الغربة. الساعة الرابعة
والنصف تقريباً، جلسنا دون كهرباء، في جو شديد البرودة، لدرجة أن بخار
الماء كان يخرج من أفواه من يتكلم، ونحن داخل المنزل. ظننت أني قادم من
بلاد البرد، فوجدت برداً أشد وأقسى، زادت برودته إجراءات الحصار الظالم
وانقطاع الكهرباء وانعدام التدفئة.
هل تأذنون لي بالوضوء، سؤال لا معنى له واجابته بديهية، لكني سألته على أي
حال، وما أن بدأت بالوضوء، حتى ارتجفت من شدة برودة الماء، كأنه ثلج مذاب،
كان الله في عون أهلنا، وقاتل الله من يحاصرهم ويتآمر عليهم كائناً من كان.
بعد تلك اللحظات المثيرة، وبعد أن وصلت وأديت صلاتي، جاء دور الأهل
ومن ينتظر الأخبار بمزيج من القلق والاثارة. اتصلت بزوجتي، تحدثت مع
أبنائي، أرسلت عدة رسائل عبر الهاتف لأصدقاء، ملخصها جميعاً: ليتكم معي،
ليتكم معي. بعدها اتصلت برجل فاضل عرفته والتقيته في موسم الحج العام
الماضي، كنا نتواصل دائماً عبر شبكة الانترنت، أصر على المجيء في التو
واللحظة، قلت له "طول بالك دوبني واصل"، أجاب لا بأس ليصف لي أخونا
العنوان. كان له ما أراد، ختم بقوله "أنا في الطريق اليكم"، وما هي إلا
ثلث ساعة وكان قد وصل.
جلسنا جميعنا نتناول الطعام الذي أعددته الحاجة، على ضوء الشموع، تبادلنا
أطراف الحديث، وباصرار والحاح لمرافقة القادمين إلى خان يونس، تركنا رفح
وأهلها الأكارم، هكذا هم أهل قطاع غزة لا مهرب من ضيافتهم وكرمهم إلا إليه.
الطريق إلى خان يونس لم تكن سهلة، مستنقعات وبرك المياه في كل مكان، ممرات
يطلق عليها طرق، حفر وانهيارات، حتى الطريق الرئيسي كان في حالة يرثى لها،
أعني طريق صلاح الدين الشهير، مظاهر العدوان في كل مكان، لكن رغم ذلك،
ورغم ما يعانيه أهل غزة، رأيت الوجوه باسمة مستبشرة، الكل يلوّح "السلام
عليكم"، كيف لا وهم على الأرض المباركة، هنيئاً لهم.
خان يونس كانت كرفح، بدون كهرباء، برد شديد، كرم وحسن ضيافة، وجوه مستبشرة
مرحبة، وخلال لحظات كان أكثر من عشرة اشخاص يسألون ويستفسرون عن الرحلة
والطريق، عن أهلهم واخوتهم في الشتات. معنويات الجميع كانت في السماء، بل
لا أبالغ أنها معنويات تفوق معنوياتنا، وإصرار على الحق والثبات.
التفت أحد الحضور وقال: "بصراحة احنا بنعتب عليك يا دكتور"، قبل أن يكمل
عرفت مقصده، فبادرته: "قصدك موضوع الاتجاه المعاكس عالجزيرة وحكاية
المنطقة الشرقية من خان يونس"، ضحك الجميع وقالوا "نعم"، هنا تساءلت وهل
عرضت إلا وقائع وتحليلات مبنية على المتابعة؟ نعم نعم كنا نمازحك، لكن
الموضوع تطور إلى السؤال عن مستجدات القضية التي رفعها دحلان حول هذه
الجزئية تحديداً، وأبدى الجميع استعدادهم التام للادلاء بشهاداتهم وتوثيق
كل ما يتعلق بالأمر. شعور صادق وهام، وقد يكون أكثر أهمية في مراحل قادمة
من القضية التي أكدت لهم أنني سأواجهها حتى النهاية إحقاقاً للحق.
تأخر الوقت، لم نشعر به، والحضور يزدادون، لكن القوم لديهم أعمالهم في
الصباح، انطلقوا على بركة الله، وبدأت الدعوات تنهال: "بكرة الغدا عندي"،
"لا عندي"، "اسمحولي يا شباب هالمرة عندي"، "طيب اذا الغدا صعب خليها
عالعشا"، "ما راح نقبل أعذار"، كرم قل مثيله، ودعوات صادرة من القلب لا
مجاملات، حفاوة ميّزت كل من قابلت وتركت أعظم الأثر في نفسي.
ما رأيك أن تخلد للنوم؟ تساءل مضيفي، قلت لست هنا كي أنام "النوم ملحوق
عليه"، أريد أن أعيش متعة كل لحظة على أرض فلسطين الغالية. كان مخططي
الأساسي أن أصل صباحاً وأن أغادر مساء بسبب ظروف المعبر والتزامات العمل
وغيرها، لكن هيهات فالأمر لم يعد ملكي، وبرامج الزيارات قد ثُبتت وغير
قابلة للنقاش،ها قد تغير المخطط وقررت المبيت فلا أقل من أن استغل
اللحظات، ولا أنكر أنني في حقيقة الأمر كنت أتمنى أن أبقى متحيناً العذر
لذلك.
فيما يشبه السحور الساعة الثانية بعد منتصف الليلة، دخلت "صينية" عليها
طعام العشاء، لم يكن عشاء عادياً، مكوناته جميعا "بلدية" أي من إنتاج أرض
غزة، الطماطم، البصل، الفول، الزيت، الزيتون، حتى الخبز كان معداً
بالمنزل، ما ألذ الطعم وما أروعه من إحساس. لم أكن جائعاً عندما بدأنا
الأكل، لكن حقيقة أن الطعام كان من أرض الخير جعلني آكل وبشهية. هي فرصة
ربما لن تتكرر بسهولة، اللهم بارك في أرض فلسطين وبارك في رزقها.
كان لابد من الراحة قبل صلاة الفجر، وضعت رأسي على الوسادة، راجعت
شريط الأحداث لليوم الماضي، كيف كانت اللحظة الأولى واللقاء الأول والخطوة
الأولى، طمأنينة غريبة شعرت بها، وسكينة ملأت قلبي وعقلي ونفسي. لماذا
تغالبني دموعي مرة أخرى؟ انها دموع الفرح والسعادة، دموع من يقضي ليلته
الأولى في أحضان وطنه العظيم، ومع هذه الأفكار والمشاعر، ومع التفكير في
الغد، الغد هو يوم آخر، وجولة أخرى، غلبني النعاس وكم كنت أتمنى أن لا
يزورني النوم أبداً خلال رحلتي الأولى إلى فلسطين الحبيبة، لكني نمت.